الجمعة 19 أبريل 2024 الموافق 10 شوال 1445
رئيس التحرير
حازم عادل
مقالات الرأى

حدث في إقليم كامبانيا

الأربعاء 26/مايو/2021 - 09:25 م

من رسائل ماركو لحبيبته روز
20 فبراير 2020 
إيطاليا –اقيلم كامبنيا – نابولي 
في إحدى الأحياء الفقيرة بمدينة نابولي بإقليم كامبنيا جنوب إيطاليا، وقفت روز في بلكونتها بوجه ذابل يبدو عليه الخوف وهي تحاول أن تتمالك نفسها وألا تبكي، وقفت تنظر لملتقى التقاطع الذي يبعد عن منزلها عدة أمتار كأنها تنتظر قدرها المحتوم الذي لا مفر منه. 

فور سماع "روز" صوت سيارة الإسعاف يأتي من بعيد سقطت دمعة وحيدة من عيناها تشبه آخر قطرة في أمطار الشتاء، تلك القطرة التي تودع السماء وحيدة وعندما تصل للأرض تذوب كباقي القطرات، فلا هي استمتعت برحلة السقوط الأخير، ولا هي رأت قطرات أخرى تسقط لتشعر بالونس والألفة، هكذا كانت دمعة روز الوحيدة بلا وليف أو أنيس.

وقفت سيارة الإسعاف أمام المنزل المقابل لمنزل روز، نزل المسعفون سريعا وأحضروا سرير الطواريء ثم دخلوا المنزل، بعدها بدقائق خرجوا مرة أخرى ولكن تلك المرة ازدات سرعتهم وعلى السرير شاب ثلاثيني مستلقي يبدو عليه الإرهاق والمعاناه الشديدة، رغم ضعفه الواضح واستسلامه الكامل لما يعاني منه، كانت عيناه حائرتان كأنه يبحث عنها، هكذا شعرت روز في نظرتها الأخيرة لماركو قبل أن يدخلاه المسعفون لسيارة الإسعاف التي انطلقت بعدها وصوت سيارة الإسعاف يدوي في الأجواء كأنه مقطوعة موسيقية حزينة تم عزفها في أحياء الشمال الإيطالي خصيصا لتلك المناسبة.

لم تبكى "روز" بعد دمعتها الوحيدة ثانية، دخلت من البلكونة وقد تبدلت ملامح وجهها من الخوف والحزن للثبات والتحدي، كأنها شخص آخر، ارتدت جاكت جلد رجالي وأخذت آلة الساكسفون التي حصلت عليها حديثا وتعلمت العزف عليها من أجله، وقفت بضع ثواني كأنها تفكر في شئ ما ثم غادرت المنزل.

نابولي، تلك المدينة الساحرة عاصمة إقليم كامبنيا أهم أقاليم الجنوب، التي تضم المتناقضات جميعها، تجمع ما بين سحر الفنون وواحدة من أقدم دور الأوبرا في التاريخ وبين إجرام أخطر عصابات المافيا في إيطاليا والعالم، تجمع بين الأحياء الفقيرة التي يعيش أهلها بأموال العمل اليومي والفنادق الفارهة التي يسكنها أغنياء الكرة الأرضية للاستجمام والهدوء، وكذلك تجمع بين أقدم قصص الحب وبين قصص المراهقين الذي يحفرون أساميهم على المباني والشجر، فتجد هنا (اشتقت لكي مارلين) وعلى هذه الشجرة (أحبك مارتن)، ولو كنت من زوار تلك المدينة قبل أسابيع كنت ستجد في آخر كل ممر في منتصف الليل شاب وفتاة يتعانقان ويقبلان بعضهما بحب ونهم، لكن الوباء كان له الرأي الغالب.

وقفت سيارة الإسعاف أمام مبنى مكتوب عليه (مسشفى نابولي)، قام المسعفون بإنزال المريض سريعا ودخلوا للمستشفى التي تبعد حوالي ساعة ونصف عن منزله، في الوقت نفسه تتحرك روز بدراجتها في حرص وترقب بسبب الحظر المفروض على إيطاليا بأكملها، لكن لسوء حظها رآها أحد رجال الشرطة واستوقفها وأخذها على قسم المدينة ورفض كل محاولاتها وتوسلاتها للخروج قبل انتهاء الحظر في السادسة صباحا.

15 سبتمبر 2020
جلس الصحفي اوليفر في مكتبه بصحيفة لاستامبا التي تصدر من نابولي وأمامه صندوق الرسائل الأسبوعية، فتح معظمها وترك تلك الأوراق التي تعود لثلاثين عاما في النهاية، يبدو أنه جواب رومانسي لكن طويلا نوعا ما، أرسلته له إحدى السيدات من نابولي تدعى روز، لم يرى اوليفر أهمية لتلك الأوراق سوى أنها موقعة بتاريخ 20 فبراير 2020 ومختومة بالختم القديم لمستشفى نابولي، وقتها قال لا بأس من ضياع نصف ساعة في قراءة ما كتبه.. نظر للجواب وقرأ اسم صاحبه.. ثم استمكل محدثا نفسه (لا بأس من قراءة ما كتبه ماركو منذ ثلاثون عاما)

(عزيزتي روز، اشقت لكي كثيرا، أجلس الآن على سريري في غرفة العزل وأتلقى علاج وصفه الطبيب، يقول أنه يقوي المناعة ليس أكثر، أضحك واتذكر كوب الأعشاب الاستوائية الذي كنتي تجبريني على شربه يوميا في الصباح، أقول لكي أنا أفضل الشاي أو قليل من النبيذ لكنك تصرين وتؤكدي لي أن هذه الأعشاب ترفع المناعة، كنتي طبيبة وحبيبة في نفس الوقت.. كم انا محظوظ بكي.. احمد الله كثيرا انكي كنتي خارج نابولي في الأسبوع الأخير لحضور مناسبة عائلية، وجودك وقت اكتشافهم إصابتي بفيروس الكورونا كان أكثر قسوة علي من ذا الفيروس القاتل اللعين، أعلم ان المرض تفشي في إيطاليا كلها لكنني اتمنى ان تكوني بخير حتى الآن.

يقولون أن الزيارات ممنوعة، لذلك طلبت قلم ودفتر يوميات لأكتب لكي، لا أعلم ماذا اكتب لكنني سأكتب على كل حال، منذ بداية أعراض المرض وأنا لا أخشى الموت، لكنني اخشي فراقك، فراقك روز يعني الموت، حتى لو كنت متعافيا وأتنفس بسهولة دون الحاجة لأنبوب أكسجين أصطناعي كهذا الذي بجانبي الآن وانا أكتب لكي، تذكرت أول لقاء وأول قبلة طبعتها على شفتاكي وأول مرة قلتي لي أحبك، تذكرت الكثير والكثير روز.

عندما استأجرت الغرفة المقابلة لغرفتك من السيدة مالينا العجوز، كنت أراكي يوميا وأنتي تخرجين حاملة آلة التشيلو وتركبين دراجتك وتنطلقين، تذكرت ذلك اليوم الذي أردت فيه لفت نظرك فاسرعت للبلكونة وقت خروجك وبدأت أغني بصوت مرتفع ظنا مني أنني أملك صوتا جميلا وأنكي بالتأكيد ستنظرين لي بإعجاب، نظرتي لي يومها بدهشة وغضب وقلتي "صوتك مزعج" ثم انطلقتي، ضحكت كثيرا وشعرت انني نجحت في المهمة واستطعت أن الفت نظرك، حتى لو كان عن طريق الغضب والإزعاج، المهم انني نجحت.

في اليوم التالي قررت أن أراقبك واعرف إلي اين تذهبين يوميا بتلك الآلة، انتظرت حتى انطلقتي بدراجتك واستأجرت تاكسي بنصف أجرة يوم من أيام عملي في مطعم لورانسو المجنون وانطلقت خلفك، رأيتك وانتي تدخلين دار الأوبرا، قلت لنفسي وجدتها، ظللت أسير وأنا اغني بصوتي المزعج ( وجدتها وجدتها ) 

في اليوم التالي ذهبت لسوق الملابس المستعملة واشتريت قميص وجاكت وكنت املك بنطال يفي بالغرض، وقررت حجز كرسي في آخر صف في العرض الذي ستعزفين فيه

ارتديت ملابسي ونظرت نظرة أخيرة في المرآة، أبدوا أنيقا في هذا القميص والجاكيت المستعمل، هكذا قلت لنفسي قبل الخروج من الغرفة لحضور حفل في الأوبرا التي تعتبر هي المرة الاولى التي أدخلها

جلست في الصف الأخير انظر لكي، فقط انظر لكي وانا مستمتع، ليس مستمتعا بالموسيقي المملة أو الغناء الذي لم افهم منه شيئا ولكن مستمتعا بالنظر اليكي وانتي تعزفين برشاقة وسعادة غامرة تظهر في عيناكي، انتظرت بعد العرض حتى انصرف الجميع واقتربت منك وقلت لكي يالها من حفلة رائعة، سأحضر جميع الحفلات التي تعزفين فيها، وقتها سألتيني عن نوع الغناء الأوبرالي المفضل لدي، الآريا أم الأوبرا الهزلية أم الأوبرا الجادة، وعندما بدأت في التلعثم ضحكتي ضحكات مرتفعة كأنك اكتشفتي حقيقتي وانني لا افهم في هذا الفن شيئا واتيت هنا من أجلك، وافقتي بعدها على دعوتي للغداء وأخبرتيني ان سبب موافقتك هو تقديرك لمجهودي المبذول للتعرف عليكي، إضافة إلى خفة دمي، وقتها قلت لكي الجنوبيين كلهم خفيفي الظل عزيزتي روز، ثم قمت ببعض الحركات البهلوانية الساذجة أمامك حتي تضحكين، عشقت ضحكتك منذ اللحظة الأولى. 

تذكرت أيضا اول ليلة نقضيها معا، عندما كنا ثملين وطرقنا باب صاحبة المنزل العجوز مالينا وركضنا سريعا لغرفتي ونحن نضحك وهي تسب وتلعن من فعلها، وقتها حكيت لكي عن أصولي الجنوبية وكرهي الشديد للشمال، انا شخص لا يحب التاريخ ولا يعرف منه سوى أن وقت توحيد المملكتين نهب الشمال ثروات الجنوب وأصبحت نابولي مدينة فقيرة، أؤمن جدا بالمثال المنقوش على جدران المباني هنا (الثروة يفوز بها الأخ الاكبر دائما)، والشماليون يعتبرون أنفسهم ذلك الأخ الأكبر الفائز، يومها اخبرتيني أن أصولك مكسيكية، جدك والد والدك من هناك وأتى مع والدك في مراهقته لايطاليا وتزوج والدك من والدتك في باليرومو بصقلية، حينما كنتي تتحدثين الإنجليزية كنت أنظر لكي وأنا أهز رأسي كأنني أفهم ما تقولين، ثم تصمتين ثواني وتضحكين وتتذكرين أنني لا أجيد الانجليزية، فأنا اقرأ الإيطالية نفسها بصعوبة ما بالك بالإنجليزية.

حكيت لكي عن عملي اليومي في مطعم لورانسو المجنون، العمال يطلقون عليه لقب المجنون لانه دائما منكوش الشعر و يعتقد انه امتداد لطهاه الإيطاليون العظام وهو في الحقيقة لا يجيد الطبخ ومذاق طعامه سيء جدا، لكنه في النهاية عمل يوفر نقود استطيع منها دفع أجرة الغرفة وشراء بعض الملابس المستعملة وبعض زجاجات النبيذ المعتق درجة ثالثة، سألتك يومها لماذا لا تعزفين الجاز وتتعلمين الساكسوفن، موسيقى عصرية ومنتشرة وانا شخصيا أفضلها، وقتها قلتي لي (تعلم أن كلمة أوبرا هي كلمة ايطاليا قديمة تعني العمل؟ وأنا أحب الأوبرا لانها عمل وفن حقيقي وليس مجرد موسيقى يستمتع بها الجمهور)، حدثتيني عن والدك وعشقه لموتسارت وباخ وهاندل، حدثتني عن حبك لاوبرا كارمن وتياترو دي سان كارلو، لم اجد وقتها أسباب كالتي ذكرتيها تفسر حبي للجاز، لكنني احبه واستمتع به، واعتقد ان هذا الفرق بيني وبينك روز، انا احب الأشياء دون سبب وانتي تفسرين وتطرحين الأسئلة والأجوبة طوال الوقت، أنا اعشق البيتزا وانتي تفضلين باستا الدجاج وتأكليها يوميا بداعي انها وجبة مثالية تحتوي على البروتين والدقيق والخضروات مما يساعدك في الحفاظ على وزنك، أنا احبك على اي حال، سواء كان قوامك ممشوقا كما انتي او ازداد حجمك، كنت اقول لكي وانا اضع قطعة البيتزا في فمك واضحك لا مانع من بعض الكيلوجرامات إذن. 

تعلمين، اتذكر يوم طردتني لورانسوا المجنون من العمل بعد ان اتهمني بإفساد أحد خلطاته السرية لصالح مطعم آخر، يومها ذهب لكي وقبلتك قبلة اتذكرها جيدا ثم صعدت على حافة البلكون وانا انظر للشارع وافكر في الانتحار، أين سأعمل الان في تلك البلدة الصغيرة، لم يكن أمامي سوى أن اكون واحد من رجال المافيا أو أن أتسول في الشارع، وقتها صعدتي أنتي أيضا فوق حافة البلكون واحتضتنيني وقلتي لي اقفز، اقفز وسأقفز معك، الحياة دون قبلة منك سخيفة ولا داعي منها، كنت اجن من أن أتخذ قرار القفز ليس من اجلي.. ولكن من اجلك.

في اليوم التالي دخلتي علي وأنتي ترقصين من السعادة وقلتي لي (لدي فكرة)، واخبرتيني بفكرتك العبقرية، عربة طعام متنقلة في شوارع نابولي، أقدم فيها الطعام السريع وأنتي تعزفين بجانبي لجذب انتباه الزبائن، قلت لكي حسنا أنها فكرة رائعة لكني عليكي أن تعزفي الجاز، موسيقى تشبه الشارع أكثر من الأوبرا، قلتي يومها "لن اعزف سوى موسيقى الأوبرا وسترى حب الناس لها وتغير فكرتك عنها).

بالفعل بدأت في المشروع، ما تبقى لدي من أموال على جزء من أموال قررتي أن تعطيه لي، وبدأت في بيع البيتزا والباستا والحلوى المتنوعة على عزفك، أصبحنا منذ اليوم الأول مميزين ومعروفين بالموسيقى والحلوى التي نقدمها للناس، تنقلنا كثيرا بين الاوبرا ووسط المدينة، حتى حواريها، كنت اختلس لحظات كل فترة واضع قبلة على شفتيك، وفي آخر اليوم امسك بطبق الحلوى وارقص على عزفك، كنت اقول لكي وانا ارقص اللعنة، لقد اصبحت اعشق موسيقى الاوبرا المملة، تبتسمين وتستكملين العزف، انها المرة الاولى التي احب شيئ لسبب، أحببتها لانني أحبك.

لا اعلم كيف وصلتلي العدوى، من مالينا قبل وفاتها أم من صاحب متجر الجملة الذي أحضر من عنده الدقيق، على كل حال المدينة كلها أصبحت تعاني من الوباء، أنا لا اخشى الموت تعلمين هذا، لكنني اخشى فراقك، حبيبتي روز، سأكتب لكي دائما حتى الشفاء او الموت. 

حاول "أوليفر" ان يقاوم دموعه التي انهمرت مع اخر كلمات الجواب، ذهب بعدها مسرعا لمدينة للحي الذي تم ارسال الجواب منه والتقى تلك المسنة، وجدها روز حبيبة ماكو كما تخيل، شكرها على ارسال الجواب وطلب منها إخباره بمصير ماركو، هل عاش أو قضى عليه المرض، لم تجبه روز سوى ببضع كلمات قليلة ( فور خروجي من القسم يومها ذهبت لمستشفى نابولي ووقفت تحت غرفة ماركو وعزفت له الجاز الذي يحبه.. كان يحب موسيقى الاوبرا من اجلي.. واشتريت الساكسفون واحبب الجاز ايضا من أجله) ثم تركته ودخلت غرفتها.