السبت 04 مايو 2024 الموافق 25 شوال 1445
رئيس التحرير
حازم عادل
مقالات الرأى

اغتيال

الإثنين 07/ديسمبر/2020 - 06:24 م

الخميس 1 يناير 1957
جلس منيب سويلم المهدي بجانب الراديو الذى يصدر ذبذباته التى تشوش على نقاء صوت أم كلثوم فى حفلها الشهرى الذى يحضره الرئيس عبد الناصر ورئيس مجلس الأمة محمد أنور السادات وعدد من قيادات الجيش ومجلس قيادة الثورة، يقام الحفل هذه المرة في نادي ضباط مصر الجديدة، أخيرًا استطاع منيب ضبط التردد على المحطة الصحيحة، قال لنفسه وهو يسعل نتيجة التدخين المفرط لمعسل القص: "كويس ما فاتتنيش الغنوة الجديدة اللي هتقولها في حفلة الليلة"، تغني أغنيتها الجديدة (دليلي احتار)، كعادة الست تقدم ثلاث أغان خلال الحفل، تكرر اثنتين وتشدو بواحدة جديدة، وبينما بدأ منيب في الاندماج مع صوت الست وآهات جمهورها، ومع بداية أم كلثوم للأغنية وهي تقول (تغيب عني وليلي يطول وفكري في هواك مشغول)، دخل عليه حفيده طه محمدي منيب المهدي، تعجب طه من جلسة جده بجانب الراديو في نهم دون أي مبالاة لما يحدث في الخارج، اقترب منه وقال بجانب أذنه اليمنى التي ما زال يسمع بها (الناس برا بترقص وتغني بالأعلام وانت هنا قاعد بتسمع الراديو؟!).

يعمل منيب سويلم المهدي بوابًا في إحدى العمارات بمنطقة الزمالك التي يملكها أحد الإقطاعيين الذي استطاع أن يسوي أموره مع مجلس قيادة الثورة ويحتفظ بكل أملاكه، استقر منيب في عمله منذ سنوات بعد أن حصل على العفو من الرئيس محمد نجيب بعد الثورة مباشرة، بعد أن عاش سنوات ما بين موطنه الأصلي "السودان"، وكل محافظات مصر تقريبًا خوفًا من القبض عليه نتيجه ما تورط فيه منذ نحو ربع قرن .

أغلق طه الراديو وطلب من جده الخروج معه للاحتفال بالذكرى الأولى لانفصال السودان عن مصر في 1 يناير 1956، رفض منيب وطلب منه الجلوس معه يستمعان للست، وافق طه ولكن بشرط أن يجيبه عن سؤالين يحيرانه دائمًا، وافق جده منيب وهو يضحك ضحكته الممزوجة بالسعال لتُظهر الضحكة صف أسنانه العلوي الذي خلا تمامًا من الأسنان، عامل الزمن له أحكامه، يأخذ منك ضريبة مضاعفة عن كل شيء تتوهم أنك حصلت عليه منه.

كان أول سؤال لطه "لماذا يجلس بمفرده وجميع أقاربهم السودانيين من بوابي العمارات المحيطة يحتفلون بأعلام السودان بذكرى الاستقلال والانفصال؟  ليجيبه منيب دي عالم فاهمة اللي حصل بالمشقلب، مين قال أن مصر هي اللي كانت بتحكم السودان؟ إذا كانت مصر نفسها كانت محتلة، بالعقل كدا دولة محتلة هتحتل دولة تانية وتحكمها؟ لعبة من ولاد الأبالسة الإنجليز عشان يخلونا نقلب على بعض، ضحكوا علينا وخلونا ندخل في حرب أهلية مش هتخلص لم يفهم طه إجابة منيب كاملة، لكنه على أي حال طفل لا يعنيه تلك الأمور القومية المعقدة التي ورط فيها الإحتلال الإنجليزي المصريين والسودانيين معًا، تظاهر بالفهم وسأل جده السؤال الثاني "إيه حكاية انك ابن باشوات دي يا جدي؟ العيال بيتّريقوا عليَّ وساعات باسمع أهاليهم بيقولوا أن جدك اتدب" (اتدب = اتجنن) .

تتغير ملامح منيب؛ يغلق الراديو، ويترك صوت أم كلثوم وراءه سُكونًا حزينًا يَظهر واضحًا في عيني منيب، ما زال الناس بعد كل هذا العمر يصفونه بالجنون لمجرد أنه يقول الحقيقة، هل يَعتبر البعض الصدق جنونًا؟ والحقيقة دَرب من دروب ذهاب العقل، تمالك منيب نفسه وعَدَّل من جلسته ليصبح مقابلًا لطه ثم قال له: "هاحكي لك".

5 فبراير 1924
استيقظ الشاب منيب على صوت بكاء أمه السيدة "مناظر أبو ذكري"، أسرع إلى غرفتها فوجدها تجلس على الأرض باكيةً وفي يدها جواب، اقترب منها وجلس بجانبها محاولًا تهدئتها، بعدها أخذ الجواب من يدها وقرأ ما فيه "تم العفو عني بقرار سلطاني، وسأعود إلى القاهرة لتولي منصب رفيع، لا تتصلي بي أبدًا وستصل إليكِ الشهرية باستمرار لتربية ابنك"، هكذا ودَّع والده محمود بيه العلايلي هو ووالدته .

قبل ذلك بخمسة وعشرين عامًا كان الخديوي عباس حلمي قد نَفَى محمود العلايلي إلى السودان بعد اتهامه بالاشتراك في تنظيم سري هدفه قلب نظام الحكم وقتل الخديوي، اكتفى الخديوي وقتها بنفيه وليس قتله، ولكِنْ بعد تجريده من المال والسلطة والأملاك، ذهب إلى السودان في إحدى نقلات الأغنام التي تتحرك من أسوان حتى أم درمان والعكس.

بدأ العلايلي حياة أخرى في السودان، حياة بعيدة تمامًا عن الرفاهية والسهر وسط البكوات والبهوات والأمراء، حياة يعمل فيها المرة طوال اليوم تحت أشعة الشمس ويحصل على قروش بسيطة توفر له بالكاد وجبة غداء، عَمِل في محجر يملكه إنجليزي يعيش في السودان، ولكنه لم يتحمل المشقة ولا استهزاء العمال به وسخريتهم من قلة تحمله ورغبته الدائمة في الراحة، حاول أن يعمل سائقًا لدى بعض الأسر المقتدرة هناك، لكن سلوكه المتعالي وطريقته في التعامل جَعَلاه لا يستمر أكثر من شهر في أي عمل، حتى رأى "مناظر" .

خرج محمود من منزله صباحًا باحثًا عن قوت يومه، نقلة رمل يتحملها أو حمولة غنم يساعد صاحبها في توصيلها، وبعد بحث دَامَ ساعتين وجد ضالته أمام منزل الحاج "سويلم المهدي" تاجر المواشي السوداني المعروف، عرض المساعدة على كبير العمال ووافق مقابل أجر بسيط، تمت النقلة بسلام وبدأ يتردد يوميًّا على المنزل لعله يجد نقلة جديدة، وبالفعل ساعدهم أكثر من مرة ثم عرض كبير العمال أمر انضمامه إلى العمالة الخاصة بنقل الأغنام على الحاج سويلم الذي وافق، من وقتها استقرت أموره أكثر وأصبح له يومية ثابتة يعيش منها.

خلال تردد العلايلي على منزل سويلم كان يراها، تلك الفتاة السمراء التي لا يظهر من خمارها سوى عينيها العسليتين، وعلى الرغم من اتساع العباءة فإنها تشير إلى إمكانات أنثوية هائلة تروي الظمآن، رآها أكثر من مرة وهو يحمل الأغنام على السيارات، ومرة أخرى داخل المنزل في أثناء إحضار الغداء له ولباقي العمال، ونظرًا لوسامته وطلته الساحرة فدائمًا ما كان يلفت الأنظار.

ذات مرة خلال إحضاره الطعام ترك لها جوابًا، طلب منها أن يقابلها عند ضفة النيل الشرقية في الغروب، وهنا كان أول لقاء بين محمود ومناظر، بدا عليها الاستعجال، لكن بدا عليها أيضًا الرغبة في الحديث معه، وعلى الرغم أنهما لم يُكملا خمس دقائق فلقد تَحَدَّثا في تلك المرة كثيرًا عن سبب مجيئه للسودان وعن حياته في مصر، حدثته عن خوف أبيها عليها ورفضه كثيرًا من العرسان، توالت اللقاءات حتى اكتشف أبوها أمرهما.

اكتفى الحاج  سويلم بطرده خوفًا من تعذيبه أو قتله لأنه مصري، ومهما كان معزولًا فهو يملك علاقات بالتأكيد تصل إلى الخديوي، لكن الأمور لم تسر كما تمناها الحاج سويلم، لم يَفُت أسبوع حتى وجد جوابًا على سرير "مناظر" تقول فيه (أنا ومحمود تزوجنا يا أبي، أرجوك سامحني) .

تزوج محمود ومناظر وعاشا معًا بالقرب من معبر أرقين الحدودي بين مصر والسودان، باعت مناظر ما تمتلك من ذهب، وبنى محمود بهذه الأموال بيتًا واشترى سيارة، وبدأ في العمل لتوصيل المسافرين حتى الحدود المصرية، أنجبا ولدًا سَمَّوْه "منيب" .

ذُكرت "منيب" في القرآن مرتين، وجاءت بمعنى المخلص المقبل على الطاعة، ربما لم يكن ذلك في حسبان مناظر أو محمود عندما سَمَّوه، ولكن "منيب" عاش عمره كله يدفع ثمن إخلاصه بالفعل سواء لأفكاره أو لوالدته التي تركها والده بعد خمسة وعشرين عامًا من الزواج لمجرد ورقة وصلت إليه تفيد بأن الملك أحمد فؤاد الأول قد عفا عنه ويطالبه بالعودة إلى مصر لاسترجاع أملاكه وتوَلِّي منصب رفيع في الحكومة .

هدَّأ منيب من انهيار أمه وخفف عنها وأكد لها أنه سيذهب إلى مصر خِصِّيصَى لمناقشة والده والتوصل معه إلى حل: إمَّا العودة أو العيش معه في مصر، رفض عقلها أن يصدق، لكن قلبها ما زال متعلقًا به بعد أن صارا كَهْلَيْن.

حاول منيب السفر بالفعل، لكنه فُوجئ باختفاء كل الأوراق الرسمية التي تثبت أنه ابن محمود العلايلي، وبعد أفكار وحلول عديدة حصل على اسم جده سويلم المهدي في شهادة الميلاد، وبعدها استطاع عبور المعبر ودخول مصر على أنه المواطن السوداني منيب سويلم المهدي .

بعد تقصي وجمع المعلومات، علم منيب أن والده أصبح مسؤولًا عن تأمين الضيوف الأجانب والمسؤولين الإنجليز الذين يأتون لإجراء المباحثات مع الملك، استطاع بالحيلة أن يقابله، ارتبك محمود وقتها، لكنه طلب من حراسه ترك منيب وأخذه إلى مكتبه .

دار بينهما حوار طويل حاول فيه محمود أن يبرر لمنيب أن الفترة التي عاشها مع أمه كانت فترة عابرة، وأنه كان لا بد من العودة إلى حياته الطبيعية، اندهش منيب من جرأة والده، يُسمي حياته مع أمه خمسة وعشرين عامًا بالفترة العابرة، إذًا ماذا تكون الحياة الدائمة المستقرة في نظره؟ ألم يسأل نفسه ماذا كان سيحدث له لو لم يقابل مناظر؟ لكان وقتها جثة مدفونة في صحراء السودان، لقد ضحت وواجهت أباها وباعت ما تملك من أجله، وهو يطلق على حياته معها الفترة العابرة، أيُّ نوع من البشر هذا الذي يقابل المعروف بالهرب؟ كلها أسئلة وجَّهها منيب إلى محمود لكنه لم يَلْقَ جوابًا، صمَّم محمود على ضرورة عودة منيب إلى السودان ورعاية أمه مع انتظار الشهرية، هُنا شعر منيب بانفصال دمه عن ذلك الرجل الذي يقف أمامه .

بعدها بأيام وقبل أن يلملم منيب خيبته ويعود إلى السودان، وصل إليه جواب عن طريق أحد أقاربه يفيد بوفاة أمه مناظر سويلم المهدي، عاد مُسرعًا بعدها إلى السودان ودفن أمه التي تُعتبر على الأوراق الرسمية أخته، حِينَئذ لم يهتم بالمسميات، أمه أو شقيقته، المهم شعوره بأنه قطع جزءًا من جسده ودفنه في التراب، وقتها قرر منيب الانتقام .

على الرغم مما فعله محمود بمنيب ووالدته فإنه ما زال أباه، وعلى الرغم أنه على الورق ليس له صلة به فإن دماءهم واحدة، فكَّر في الانتقام منه دون المساس به، وهُنا كانت الخطة التي وضعها منيب سويلم المهدي .

كوَّن منيب مجموعة من الفدائيين وقرروا تنفيذ عملية اغتيال تكون صفعة على وجه الاحتلال والملك وأعوانهم، ذلك كان الدافع الظاهري أو المسيطر على كل المجموعة، لكن الدافع الأقوى لدى منيب كان الانتقام لوالدته ولنفسه .

19 نوفمبر 1924
بعد مراقبة دامت أسابيع، استطاع إبراهيم موسى وعبد الفتاح عنايت ومنيب سويلم المهدي رصد كل تحركات الحاكم العام للسودان الذي يقيم في مصر هذه الفترة "السير لي ستاك" ويتوجه يوميًّا إلى وزارة الحربية، ثم يعود إلى منزله في الزمالك الذي تحول بعد ذلك إلى نادي الضباط بالزمالك.

راقبت المجموعة الموكب منذ تحركه، انتظروا الوقت المناسب في الثانية ظهرًا وفي وضح النهار، هاجموا سيارة السير التي فَرَّت بعدها متجهة إلى قصر الدوبارة حيث مقر إقامة المندوب السامي البريطاني، ولكن إصابات السير لي ستاك كانت قاتلة وتوفي بعدها مباشرة.

نتائج الاغتيال كانت مدوية، أهمها طرد جميع المصريين من السودان، واستقالة الحكومة، ومحاكمة محمود العلايلي ورفاقه المسؤولين عن تأمين السير الإنجليزي، وبالفعل شُكِّلَتْ حكومة جديدة برئاسة أحمد باشا زيور الذي كلف إسماعيل صدقي وزير الداخلية وقتها بالبحث عن منفذي الاغتيال، ورُصدت عشرة آلاف جنيه لمن يدلي بأية معلومات عن الجناة، وبالفعل تَمَّ ضبطهم جميعًا، وحُكم عليهم بالإعدام ما عدا منيب سويلم المهدي .

عاش منيب بقية حياته هاربًا، ولحسن حظه لم يُدْلِ عليه أي من زملائه، عاش في الإسكندرية سنوات وفي السويس وطنطا، وانتقل إلى البحيرة وخط الصعيد حيث المنيا وبني سويف، قضى من عمره نحو 25 عامًا هاربًا حتى نسي أصله وضاع شبابه وأصبح عم منيب البواب الذي ينتقل من عمارة إلى أخرى ومن حي إلى آخر .

يناير 1952
بعد قيام ثورة يوليو وانتهاء فترة الملكية والاحتلال الإنجليزي لمصر، أسقط الرئيس محمد نجيب كل الأحكام القديمة وأصبح منيب حرًّا، لكنه كان قد اعتاد حياته الجديدة، لم يصفها بالفترة العابرة كما فعل محمود العلايلي، لكنه اعتبرها حياة جديدة بدأت بوفاة "مناظر" ولم تنتهِ بعد.

عاش منيب حياته في فصول من الانفصال: انفصال بلاده، وانفصال أبيه عن أمه، وانفصاله عن أمه، وانفصاله عن شخصيته الحقيقية، لا يعني الانفصال دائمًا النهاية، قد تنفصل الطرق لتعيدنا مرة أخرى إلى الاتجاه الصحيح .

1 يناير 1957
بعد أن انتهى منيب من حكايته التي قَصَّهَا على حفيده طه، باغته طه بسؤال طفولي "يعني انت منيب محمود العلايلي مش منيب سويلم المهدي؟" ضحك منيب وفتح الراديو ليجد الست تقول (وأقول امتى أنا وأنت، هنتقابل مع الأيام) .