الجمعة 19 أبريل 2024 الموافق 10 شوال 1445
رئيس التحرير
حازم عادل
مقالات الرأى

رفيق الباشا

الأربعاء 03/مارس/2021 - 01:47 م

9 نوفمبر 1955
نظر المقريء محمود العجوز للسماء وجدها ملبدة بالغيوم، سحابها ينظر للأرض متوعدا بليلة ممطرة،" ستمطر الليلة لا محالة" كلمات قالها العجوز قبل أن يسحب آخر نفس من سيجارته التى ألقاها بعد ذلك على الأرض جثة هامدة مسلوبة النيكوتين والقطران بجانب حذاءة الأسود اللامع، بعدها تناول آخر رشفة من فنجان القهوة الذي أمامه وعدل جلسته استعدادا لقراءة الربع الأخير في عزاء أحد المتوفيين الذى يتلوا فيه آيات من الذكر الحكيم بجوار القرافة الصغرى بمنطقة المقطم، تأكد العجوز أن الميكرفون يعمل وقبل أن يبدأ في التلاوة رمق راضى عبد المولى بنظرة محذرة بعد أن لاحظ اقترابه من الطاولة المجاورة له لرفع فنجان القهوة الخاص به بعد أن انتهى فبدأ تلاوته كأنه يحذر راضى "وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً"، ارتعدت يد عبد الراضى تاركا الفنجان على الطاولة حتى نهاية العزاء.

بعد أن انتهى العزاء بدء عبد الراضى فى جمع الأكواب وعدها جيدا والتأكد من سلامتها وعدم شرخ أى كوب أو كسر يد أى فنجان، اقترب منه العجوز وقال له "ألم أحذرك كثيرا أيها الراضى عن المعاصى والذنوب ألا ترفع فنجانى حتى انتهى من القراءة" أجابه راضى وهو يتجنب النظر لعيناه "الطلب كان زيادة وعدد الفناجين على القد.. وأعذرنى فى السؤال يا سيدنا الشيخ ماذا تفعل بفنجان انتهيت من شرب القهوة التى بداخله، أتقرء قعر الفنجان وترى الطالع؟"، ضحك العجوز فلمح راضى فمه الخالى من الأسنان عدا الفكين الامامين فشعر بالخوف أكثر ثم قال له العجوز"طلعوا القرافة عليك يا بعيد، سأخبرك يا راضى الغبرة، بعد انتهاء القهوة يترسب البن فى قعر الفنجان فأخلطه بقطعة صغيرة من الأفيون واتناوله لكى يساعدنى على استكمال اليوم والقراءة بمزاج عال العال"، صمت العجوز لثواني ثم قال لراضي بلهجة محذرة " حسك عينك ترفع الفنجان من على طاولتى قبل انتهائى من الربع الأخير مرة أخرى، مفهوم"، أجاب راضى بسرعة " مفهوم يا سيدنا، أتمنى ألا تنسى طلبى فى وساطتك لدى أحبابك في وزارة الأوقاف للحصول على قبر من القبور التابعة للوزارة اكتبه باسمى ويصبح مدفن لى ولأسرتى من بعدى"، تجاهل العجوز كلامه وقال له "مفهوم يا راضى عن الهم والغم؟!، لم يلح راضى فى طلبه و ظل يردد " مفهوم، مفهوم" حتى تركة العجوز ورحل واستكمل هو تنظيف الفنجانين والأكواب ووضعهم فى الحقائب المخصصة لهم. 

10 نوفمبر 1955
ذهب راضى عبد المولى لعمله النهارى كحارس على مقابر الأسرة العلوية بحوش الباشا بالقرب من منطقة المقطم، يعمل راضي صباحا فى حوش الباشا وليلا يكون مسؤولا عن نصبة الشاى والقهوة فى أى عزاء يقام بمنطقة القرافة الصغرى .

فور وصول راضي للحوش بدأ في تنظيفه ونزح أمطار الليلة الماضية من الأرضية وتنظيف شواهد القبور الرخامى التي تحمل فى صدرها تواريخ ميلاد و وفاة ساكنى هذه القبور، بدء بقبر طوسون باشا نجل محمد على مرورا بقبر شفق نور هانم زوجة الخديوي إسماعيل وصولا لشاهد قبر إبراهيم باشا الأبن البكرى لمحمد علي باشا وقائد جيوشه الذى يجاور شقيقه طوسون باشا وغيرهما من الأسرة الملكية، أثناء تنظيف شاهد قبر إبراهيم باشا لمح تاريخ الوفاة وتذكر أنه يوافق اليوم 10 نوفمبر ولكن من حوالى 107 سنوات.

وقف راضي أمام القبر وألقى السلام ثم بدا وكأنه يتحدث لشاهد القبر قائلا "لم يعد حال حوش الباشا كما كان قبل ثورة يوليو يامولاى، مثله كمثل المحروسة، هى أيضا لم تعد كما كانت، قديما كان يمثل هذا اليوم من كل عاما عيدا فى الحوش، يأتى الملك بنفسه ويحضر بصحبة أهم المقرأين ويحضر معه الورود لزيارة جده إبراهيم باشا، أما الأن هناك عيد الثورة وذكرى الاستقلال والجلاء ولم يعد الكثيرون يهتمون بمحمد على وأبناءه، لكنك فى النهاية ملك ومجل مؤسس مصر الحديثة، من حقك أن نحيي ذكراك".

أحضر راضى شريطا مسجل عليه القرآن كاملا بصوت القاريء عبد الباسط عبد الصمد ووضع جهاز المسجل بجوار قبر إبراهيم باشا وقرر إحياء ذكراه وحيدا دون زيارة ملكية أو محبين، وضع كرسيه بجانب الشاهد مستمعا لآيات الله متمعنا فيها حتى استمع للآية التى تقول "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"، وفجأة وجد راضى شاهد القبر يهتز أمامه ويكاد يسقط على الارض ثم لاحظ صوت إزاحة غطاء القبر فلم يستطع تحمل ما يحدث وسقط من على الكرسى مغشيا عليه .

عاد راضى لوعيه بنغزات من يد قوية فى كتفه وفور أن فتح عيناه وجد أمامه إبراهيم باشا ببدلته العسكرية المعلق عليها نياشينه واضعا سيفه فى غمده المرصع بالذهب وفصوص الماس.

ارتعد جسد راضى فور رؤيته إبراهيم باشا يقف أمامه وظل يردد المعوذتين قائلا له "انصرف، انصرف"، رد عليه إبراهيم باشا بغضب "المعوذتين للشيطان أيها الاحمق، أنا إبراهيم باشا ملك ابن ملك"، حاول راضى تمالك أعصابه ثم قال له راضى "أتقصد أنك إبراهيم باشا بلحمه وشحمه أم أنك روحه؟، تردد إبراهيم باشا قبل أن يجيب ثم قال: لا أعلم، فى كل الأحوال أنا إبراهيم باشا، منذ وفاتى وأنا اتجلى فى كل ذكرى لى لشخص لكن عادة أزوره فى حلمه، هذه المرة الاولى التى اتجلى فيها أمام قبرى، لماذا انت الوحيد الموجود هنا، أين أحفادى؟ ومن يحكم منهم الآن؟ .

قام راضى من على الارض وعدل كرسيه ثم جلس عليه وقال له "لم تعد أسرتك تحكم مصر، مصر الآن جمهورية يحكمها مصرى كان ضابطا فى الجيش"، لاحظ راضى علامات الدهشة على وجه الباشا فأكمل كلامه "أنها السنة الثالثة بعد الثورة، سافر فاروق آخر احفادك الذين حكموا هذه الارض إلى إيطاليا بعد عزله، شعارنا الآن مصر للمصريين، والقضاء على الاقطاع ونشر العدالة الاجتماعية"، سئله الباشا" وهل حققتكم العدالة الاجتماعية وأصبحت مصر للمصريين؟"، بهت وجه راضى ولم يستطع الإجابة على سؤال الباشا فقرر المرواغة قائلا "الملك فاروق فى آخر أيامه لم يكن مشغولا بالحكم، غرقت البلاد في الديون وكثرت الأفواه الجائعة"، اقترب منه الباشا بضع خطوات ثم وضع يده على كتفه وقال "لا أملك من الوقت الكثير لمناقشة الفرق بين حكم أسرتى لمصر والحكم الحالى، طالما ظهرت لك فالبتأكيد لديك أمنية تريد تحقيقها، ماذا تريد؟"، صمت راضي قليلا  
ثم قال "ماذا أريد، لا أعلم"، ظهرت علامات الضيق على الباشا قائلا بنبرة حادة " كيف، هل هناك إنسان لا يعلم ماذا يريد؟"، قام راضى من على الكرسى وابتعد عدة خطوات عن القبر ثم التف فأصبح يقف أمام الباشا يتوسطهما شاهد القبر .

ثم قال " لو كان للبشر نصيبا من أساميهم لفزت بجائزة أكثر الاشخاص توافقا مع أسمى، أنا راضي وأعيش راضيا عن حياتي بكل ما فيها، بدأ حياتي حاجبا في محكمة زينهم بمنطقة السيدة زينب، كنت اتخيل نفسى مكان القاضي وأصدر حكما على المتهم الذى يقف خلف قضبان القفص الذى أمامى، لكنى كنت استبدل الأدلة والأوراق وسماع الشهود بنظرة مطولة للمتهم والاعتماد على احساسى بمدى صدقه فى انكار التهمة الموجهة له وبعدها أصدر حكمى، كنت أشعر بسعادة بالغة عندما يصيب حكمى سواء بإدانة المتهم أو براءته، تزوجت من فواخر صاحبة المنزل الذى كنت أستأجر الدور الأرضى فيه، كانت تكره فواخر أن يناديها أى شخص بهذا الاسم واطلقت على نفسها "فوقية" ومن وقتها أصبحت الست فوقية صاحبة العمارتين التى ورثتهم عن زوجها الأول الذى توفى قبل أن يرزقهما الله بزرية منه رغم كل المحاولات التى قامت بها وكانت تؤمن أن "سرها باتع"، جربت النوم على شريط القطر ورؤية طفل وُلد متوفيا من رحم أمه، أساليب تحمل فلسفة شعبية تؤمن بخلق الحياة من رحم الموت لكنها لم تفلح مع فواخر أو الست فوقية، فى اليوم التالى لوفاة زوج فوقية وقف العرسان طابورًا أمام باب منزلها، سيدة مازالت تحتفظ ببعض أنوثتها ولديها ورثا لا بأس بها لكنها رفضتهم جميعا.

بعد مرور سنة على وفاة زوجها بيوم واحد نزلت فوقية وطرقت باب شقتي، تعجبت عندما رأيتها وقلت لها أن أول الشهر ناقص عليه جمعتين، تجاهلت حديثى وقالت لى "تتجوزنى يا راضي؟!".

تزوجت الست فوقية التى تكبرنى بأعوام قليلة وفى أول ليلة معها وقبل أن تلمس يدى خصلة من شعرها قلت لها أنى لا أملك أى شيء وأن راتبى بالكاد يكفيني، وسئلتها لماذا تزوجتينى ورفضتى رجال أفضل منى فى الهيئة والنسب"، خلعت فوقية طرحة الفستان وجلست على الكرسى المقابل للتسريحة ونظرت فى المرآة لى وانا أقف خلفها وقالت لى "جميعهم أتوا من أجل الورث، لكنك حتى النظرة العفوية التى ينظرها الرجل للمرأة لم تفعلها، من الجائز أن يكون هؤلاء من عائلات كبيرة ويملكون ثروات ورغم ذلك يطمعون فى المزيد، أما أنت فتسكن فى بدورم إيجار وراضى بما قسمه الله لك"، انتظرت حتى انتهت من حديثها ثم اقتربت منها وقبلت رأسها، قبل أن نكمل معا 3 شهور أخبرتها داية المنطقة أن رحمها يحمل طفلا عمره أسبوعين، هزت كلمات الداية كيان فوقية وزفت الخبر لى وهي تكاد أن تطير من على الأرض، سعدت بإقتراب قدوم طفلى الأول لكن بعد تسعة أشهر لم يكن قدوم الطفل خبرًا سعيدًا خالصًا بل تحول لذكرى سيئة بعد وفاة فوقية وهى تلد أبننا، رضيت بما قسمه الله لى وكنت أبا وأما لابنى بعد أن رفضت الزواج ثانية وتفرغت لتربيته.

تغير الزمن وزادت الأسعار وأصبح طفلي شابا ولم يعد إيجار شقق العمارتين يأتوا ثمارهما، أحالونى على المعاش وتوسط لى أحد القضاة الكبار فتوليت مسؤولية حوش الباشا نظرا لأجرها الأكبر وبعض الإكراميات أحيانا، عشت شخص مهمش بإرادتى، أحيانا أسمى ذلك رضا وأحيانا أشعر بالسخط واسميه سلبية، لم يكن لى موقفا فى أى شيء، عشت حياة المفعول به رغم أننى تخيلت كثيرا نفسى فاعلا، شخص له أهمية يحدث تأثير ليس مجرد ظل  طوال الوقت"، ظل إبراهيم باشا ينظر له ويفكر فى كلامه ثم قال له "إذن أمنيتك أن تكون شخص مؤثر وذو أهمية، ولكن كيف احقق تلك الأمنية لك، أمر محير"، قال له راضى "لا تحير نفسك يا مولاى، تذكرت الآن طلب لى أسهل كثيرا، أنا تقدمت للحصول على مقبرة بأسمى من وزارة الاوقاف، لو أمكن يعنى تحرك لى الطلب بإعتبارك ملك سابق أو عفريت ملك حالى، الصفة التى تراها، المهم أحصل على قبر لى بدلا من دفني في مقابر الصدقة"، ابتسم الباشا كأنه توصل لفكرة تروق له ثم قال لراضى " ستحصل على ما تريد، لكن بطريقتى، نسيت أن أخبرك أنني أحقق دائما الأمنية الأخيرة للشخص الذى أظهر له فى ذكرى وفاتي"، اتسعت عين راضى من الصدمة وقال " هذا يعني أنني..." لم يكمل راضي جملته أمام ابراهيم باشا الذى وجد راضى جثة أمامه بعد ان فارقت روحه جسده.

10 نوفمبر 1960
دخل محمود راضى عبد المولى بهو حوش الباشا ووقف أمام شاهد قبر إبراهيم باشا وبعد أن قرأ الفاتحة صمت قليلا ثم قال "لا أعلم كيف حدث ذلك، لا أعلم كيف فارقتنى يا أبى وكيف تم دفنك فى هذا القبر ومن غير شاهد القبر وكتب اسمك بجوار إبراهيم باشا وبجانبه صفة "رفيق الباشا"، عندما تأكدت أنه بالفعل جثمانك أأتى دائما لأحيى ذكراك التى تصادف ذكرى إبراهيم باشا رحمكما الله"، انتهى محمود من تأبين والده وقرأ الفاتحة مرة أخرى ثم أعطى محمود للقبر واتجه ناحية الباب قبل أن يقف فجأة فى مكانه بعد أن استمع لصوت غريب يأتى من خلفه، التف محمود راضى وتسمر مكانه عندما رأى شاهد القبر الرخامي يهتز بشدة وغطاء القبر يتحرك من مكانه.