السبت 18 مايو 2024 الموافق 10 ذو القعدة 1445
رئيس التحرير
حازم عادل
مقالات الرأى

لوج أبي

الثلاثاء 15/سبتمبر/2020 - 02:15 م

أحببت السينما منذ نعومة أظافري.. بدأ الأمر معي في أوائل المرحلة الإبتدائية عندما قرر والدي إصطحابي لمشاهدة فيلماً سينيمائياً، ربما لا تعرف أن سينما -أسيوط الشتوية- هي واحدة من أقدم دور العرض في مصر والعالم العربي.

توجهنا سوياً إلي تلك السينما العتيقة وجلسنا في الظلام.. أصر والدي أن يحجز لنا (لوج) لم أعرف الفارق بينه وبين كلاً من الصالة والبلكون إلا عندما كانت تحدث مشاجرات علي أولوية الجلوس حيث لا وجود للأرقام علي المقاعد داخل دار العرض، ونظل أنا وأبي بمنأي عن المشاحنات، هكذا إقترنت السينما بالنسبة إليّ بـ( لوج ) أبي، في مواجهة الشاشة ندخل الساعة السادسة لنشاهد أربعة أفلام متتالية مصري وهندي وأمريكي وشيئاً أخر لا يمكن معرفة جنسيته، أبي لا يلق الأفلام المعروضة ذلك الأهتمام المطلوب في مثل هذا الحدث الفريد.. يدخن السجائر التي كان مسموحاً بها في السينما آنذاك، وينخرط في النوم و يتوجة لأداء الصلاة ويعود وهو لا يعلم شيئاً عما يعرض ولا يعلم أيضاً أنه ومن خلال هذا الأمر قد زرع بداخل الطفل الذي كنت عليه شغفاً من نوع فريد.. لم يكن الأمر عادياً بالنسبة لي.. لا تعرف مقدار الفرح بداخلي عندما أجلس في هذا المكان ومدي تركيزي فيما يدور أمامي في تلك الفترة  بنهاية الثمانيات وبداية التسعينات عندما كانت أفلام نادية الجندي وسمير غانم هي المسيطرة علي الجانب العربي وبالنسبة للأفلام الأجنبية تصر السينما علي عرض أفلام العنف والأكشن تعرف ذلك الطراز من الأفلام الذي يقوم فيه البطل بضرب كل ما يقابله في طريقة فقط لينال قبلة بين الحين والآخر من شفتي البطلة كان هذا أمراً  مهماً وقتها، و إلتصق في ذهني معني السينما بأفلام (البروجروام الواحد)، وجلسة الخمسة ساعات المتواصلة في دور العرض ويكون أقصي طموحك الحصول علي دولسي مثلج من البائع الذي يمر عليك بلا ملل أثناء العرض.

كان الأمر كله بجميع تفاصيله به سحراً من نوع خاص بداية من أفيشات الأفلام المرسومة باليد حيث لم تكن هناك الأفيشات الحديثة المطبوعة.. نهاية بتدخلات عامل الغرفة لينهي الفيلم في الوقت الذي يريده ضارباً عرض الحائط بالأعتبارات الفنية .

كنت أعرف الأفلام المعروضة من إعلانها في الشارع وكانت تتبدل كل يوم أثنين ولا يستمر فيلماً أكثر من أسبوع ربما أستمر فيلم (القبضة الدامية ) أكثر من ذلك هناك دائماً قبضة ولابد أن تكون دامية أو جهنمية بشكل ما تلك كانت قواعد الثمانينيات، كان أبي يصطحبني وحدي دون رفقة أخوتي للسينما ربما لم يكن لديهم نفس الحماسة التي كانت عندي آنذاك، وتحول الأمر إلي عادة ومكافأة للتفوق في الدراسة حينها وكنت متفوقاً وقتها أو هكذا سأخبر أولادي .

كنت أركز بشدة في الأحداث، كنت أحفظها وأعود فاكتبها وهكذا تعلمت الكتابة القصصية منذ مهدي بسبب سينما أسيوط الشتوية العملاقة وسأظل مديناً لها بهذا الفضل طالما حييت، كان ذلك قبل أن تغلق السينما أبوابها ثم يقام مكانها مجمعاً سينمائياً حديثاً يضم عدداً من الصالات ومقاعد أكثر فخامة ولكنها ليست بفخامة وثراء لوج أبي، ولا تحمل أفلامها المعروضة طعم الأفلام التي كنت أشاهدها وأنا صغير، ولم تعد السينما تحمل نفس القدر من السعادة بالنسبة لي ليس لدي تفسيراً لذلك ولكن بالتأكيد له علاقة حتمية بغياب اللوج عن السينما من الأساس وكونها أصبحت دوراً واحداً متدرجاً. 

وحدث بعدها أن تم هدمها بالكامل بمعرفة الملاك الأصليين تمهيداً لبناء برجاً ضخماً مكانها.. من الجائز أنهم إرتأوا أن تجارة العقارات أهم من السينما الشتوية ومن لوج أبي.

هكذا يتحول كل شئ في عصرنا هذا إلي تجارة حتي الفن تحول إلي نوعاً من التجارة ولم تعد الأفلام المعروضة - إلا ما رحم ربي علي فترات- تحمل نفس الطابع والروح التي كانت تحملها الأفلام القديمة (فعلاً ونسبياً) حتي لو كانت الإمكانات باتت أكبر والعوائد أكثر ضخامة حتي وان انتهت ظاهرة أفلام البروجرام الواحد ومنعوا التدخين داخل القاعات .

نفس الحال بالنسبة للشوارع والمنازل والمعاملات فيما بيننا.. تغيرنا كثيراً في السنوات الأخيرة، تغلبت الماديات إلي حد كبير علي العواطف والمشاعر في كل شئ، ربما لهذا علاقة بالتطور التكنولوجي نوعاً ما ولكن ليس هذا مبرراً لإفتقاد الشارع لكل القيم والتقاليد الجميلة.. تغيرنا للأسوأ.. إنتشر التعصب والتشاحن والكيد بين الناس بشكل كبير.. هبط الفن وهبط الذوق العام.. تشعر أن لعنة ما أصابت المجتمع صور لي خيالي أن هذا حدث منذ أن تم إزالة وهدم السينما الشتوية بأسيوط أمسي المجتمع مستوي واحد مدرج وإختفي اللوج الذي كان أخر ما يربطنا بالعادات الأصيلة.. إمتد الضجيج من داخل الرؤوس ليملأ صفحات المواقع الإجتماعية وينتشر علي وسائل الإعلام ويترك أثره علي كل شارع مصري- لماذا يرتبط في ذهني هذا التغيير بسينما أسيوط الشتوي ؟! وهو ما جعلني أتذكرها وأكتب عنها الآن عندما حانت الفرصة لذلك .

هي ليست حالة نوستالجيا للمكان بقدر ما هي حالة حنين إلي ما أحاط بالمكان من كل شئ أتمني أن نسعي معاً لإستعادة الجزء المفقود منا والذي فقدناه بأفعالنا وهدمنا أثره كما هدمنا سينما أسيوط الشتوي.
 
أفتقد مقعد ( لوج أبي ) المميز في تلك السينما.. ربما نفتقد جميعاً ذلك المكان.. وتلك الحالة.