فى ذكرى رحيله.. رياض السنباطي عبقري القصيدة العربية
تحل اليوم ذكرى رحيل الملحن الكبير رياض محمد السنباطي، واحدًا من أبرز الموسيقيين العرب في القرن العشرين، وملحنًا فذًا اشتهر بقدرته الاستثنائية على تطويع القصيدة العربية للغناء؛ والذي ترك وراءه إرثًا ضخمًا، إذ بلغ عدد مؤلفاته الغنائية 539 عملًا شملت الأوبرا والأوبريت والاسكتش والديالوغ والمونولوج والأغنية السينمائية والدينية والقصيدة والطقطوقة والمواليا.
البدايات
وُلد السنباطي في مدينة فارسكور بمحافظة دمياط، لأسرة متواضعة كان عائلها الشيخ محمد السنباطي مقرئًا ومطربًا شعبيًا يحيي الموالد والأفراح. في طفولته، كان رياض يسترق السمع لوالده وهو يعزف على العود ويؤدي التواشيح. وعندما بلغ التاسعة، ضبطه والده يغني "الصهبجية" لسيد درويش عند أحد الجيران، فأُعجب بموهبته واصطحبه للغناء في الحفلات الشعبية.
بداية الاحتراف
عام 1928 قرر الشيخ السنباطي الأب الانتقال مع ابنه إلى القاهرة لفتح آفاق أوسع أمامه، مثلما فعل والد أم كلثوم سابقًا. واجه رياض في البداية صعوبات كبيرة، لكنه لم يستسلم، و تقدم للالتحاق بمعهد الموسيقى العربية، غير أن لجنة الاختبار فوجئت بقدراته المتقدمة فقررت تعيينه مدرسًا لآلة العود والأداء بدلًا من قبوله طالبًا.
برز اسمه سريعًا كعازف بارع، إلا أنه استقال بعد ثلاث سنوات ليتفرغ للتلحين، وكانت انطلاقته من خلال شركة "أوديون" للأسطوانات، حيث لحّن لعبد الغني السيد، رجاء عبده، نجاة علي، وصالح عبد الحي.
اللقاء مع أم كلثوم
شكل لقاؤه مع كوكب الشرق منعطفًا تاريخيًا في مسيرته، حيث بدأت العلاقة الفنية عام 1935 بأغنية «على بلد المحبوب وديني» التي حققت نجاحًا واسعًا؛ ومع مرور السنوات صار السنباطي أهم ملحنيها، إذ قدّم لها ما يقرب من 95 لحنًا، بينها روائع خالدة مثل الأطلال، سهران لوحدي، عودت عيني، النوم يداعب عيون حبيبي، مصر التي في خاطري، والقلب يعشق كل جميل.
أهم أعماله
أعماله الموسيقية البحتة فقد وصلت إلى 38 قطعة، ولحن لأكثر من 120 شاعرًا، وغنى من ألحانه نخبة من كبار الأصوات مثل أم كلثوم، منيرة المهدية، فتحية أحمد، صالح عبد الحي، محمد عبد المطلب، عبد الغني السيد، أسمهان، هدى سلطان، فايزة أحمد، سعاد محمد، وردة الجزائرية، ميادة الحناوي، نجاة الصغيرة، سميرة سعيد، ابتسام لطفي، طلال مداح، وأخيرًا عزيزة جلال التي كانت آخر من تعاون معه في قصيدة “الزمزمية” و"من أنا؟".
أغنية الأطلال
من أبرز محطات السنباطي أغنية الأطلال التي غنتها أم كلثوم عام 1966 عن قصيدة إبراهيم ناجي، واعتبر النقاد هذه الأغنية “تاج الأغنية العربية” وأجمل ما غُني في القرن العشرين.
التعاون مع كبار الشعراء
امتاز السنباطي بثراء تجربته مع كبار شعراء عصره، لحن لأحمد رامي 35 أغنية، ولأحمد شوقي عشر قصائد بينها “سلوا قلبي” و"نهج البردة".
كما تعاون مع بيرم التونسي في روائع مثل “شمس الأصيل” و"الحب كده"، ولحن لعبد الفتاح مصطفى “لسه فاكر” و"يا حبنا الكبير" ومن أبرز تعاوناته مع طاهر أبو فاشا قصيدة “عرفت الهوى”، ومع عبد الوهاب محمد "حسيبك للزمن".
أسلوبه الموسيقي
تأثر السنباطي في بداياته بالمدرسة التقليدية وزكريا أحمد، لكنه سرعان ما بلور أسلوبه الخاص. أخذ من عبد الوهاب فكرة المقدمة الطويلة، وكان من أوائل من أدخلوا آلة العود مع الأوركسترا.
السنباطي والسينما
رغم أن اهتمامه الأساسي كان بالموسيقى، إلا أنه خاض تجربة التمثيل مرة واحدة في فيلم “حبيب قلبي” عام 1952 مع هدى سلطان، حقق الفيلم نجاحًا جماهيريًا، لكن السنباطي لم يجد نفسه في التمثيل وقرر التفرغ للتلحين، قائلاً: اللحن هو عالمي.
ظل رياض السنباطي حتى آخر أيامه رمزًا للجدية والالتزام الفني، لم ينجرف وراء موجات التلحين الخفيف، بل حافظ على هيبة القصيدة العربية وصاغ ألحانًا تتجاوز الزمان والمكان. وقد حصل على تكريمات عديدة داخل مصر وخارجها، واعتبره النقاد "أستاذ الموسيقى العربية" و"بلبل المنصورة" الذي ارتقى بالغناء العربي إلى قمة لم يبلغها أحد بعده.
رحل السنباطي في 10 سبتمبر 1981، تاركًا إرثًا موسيقيًا عظيمًا ما زال حاضرًا في وجدان العرب، وصوت أم كلثوم يخلّد ألحانه جيلاً بعد جيل.

