الجمعة 19 أبريل 2024 الموافق 10 شوال 1445
رئيس التحرير
حازم عادل
مقالات الرأى

أوتوبيس نقل عام

الأربعاء 30/ديسمبر/2020 - 07:21 م

استيقظ يوميًا في السابعة والنصف صباحًا، أحضر طعام اليوم كله لأنني اتبعت حمية جديدة سمعتها من طبيب تغذية في أحد البرامج ثم أبحث عن أي ملابس نظيفة ارتديها دون النظر على هيئتي في المرآة، أقول لنفسي أنا ذاهب لنفس المكان ونفس العيون التي تراني يوميًا لا داعي للاهتمام كثيرًا بالمظهر الخارجي فهي ليست نزهة أو لقاء رومانسي، انتظر في شرفة شقتي في الدور الأول وأنا أنظر للطريق حتى أجده قادمًا من بعيد، آخذ شنطتي وأسرع للاحق به.

أسكن أنا هادي محمد هادي في إحدى العمارات القديمة في شارع بالسيدة زينب، العمارة التي أسكن بها ملاصقة من الخلف لمشرحة زينهم، قديمًا كنت أشعر بالخوف وبأن أشياء كثيرة في المنزل تتحرك من مكانها، حتى اعتدت على المكان وتعودت على أصوات النواح والصريخ من أهالي المتوفين، تعودت لكنني لم أحب ذلك قط، كنت أشعر إنني الأسوء حظًا في الدنيا، أسكن خلف مشرحة!!، جيراني إما مقتول في حادثة سيارة أو بعيار ناري أو انتحر غرقًا، بسبب ظروف الحياة، لكنني شعرت لأول مرة بحسن حظي عندما انتقلت للعمل في مدينة نصر وأصبح أتوبيس هيئة رقم 177 الذي يتبع  خط سير يبدأ من السيدة زينب وحط مدينة نصر يمر من تحت العقار الذي أسكنه واستقله حتى مقر عملي كإنني امتلكت سيارة خاصة، أعلم إنني بائس، وإنني أبحث عن الحظ والفرحة كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، أو بمعنى أدق كمن يبحث عن أتوبيس هيئة خلف المشرحة، لكنني حقًا كنت سعيدًا بالأتوبيس.

في تمام الثامنة استقل الأتوبيس، استغل وقت فراغي حتى وصولي في الفطار الصحي منزوع الملح والسكر لكني أحليه بمراقبة مستقلي الأتوبيس وحواراتهم سويًا، ومن منهم زبون دائم على الخط ومن استقله لقضاء مشوار، تلك السيدة التي تتشاجر يوميًا مع الكومسري لأنه تريد دفع نص تذكرة لأنها تستقل الأتوبيس حتى نصف الطريق فقط، بائع العسلية والعرض الذي يقدمه يوميًا لدرجة إنني حفظت ما يقوله (حلي بقك  عسلية بالسكر والسمسم.. في المحلات باتنين جنيه.. مش هنقول جنيه.. هنقول نص جنيه.. حد قال هينفعنا؟) ثم يبدء في لم بضاعته ومغادرة الأتوبيس ليقيم عرضه في خط آخر، وذلك الرجل الذي يستقل الأتوبيس بعدي بخمس محطات، رجل ضخم البنية وكثيرًا ما أخشى النظر إليه مباشرة منعًا من الاصطدام به لأن الاصطدام بالتأكيد لن يكون في صالحي، اختلس النظرات له واتعجب جدًا من أفعاله، فور دخوله الأتوبيس، يخلع القميص الذي يرتديه ويظهر فانلته الداخليه، ثم يرتدي مسرعًا قميصًا لبني اللون ويظل ساكنًا حتى ينزل من الأتوبيس قبلي بمحطة واحدة.. في أول مرة قلت لنفسي بالتأكيد كان متأخرًا على عمله ففضل أن يكسب وقتًا ويرتدي ملابس العمل في الطريق.. لكن تصرفه هذا أصبح يتكرر يوميًا مرتين، مرة في الذهاب وأخرى في العودة!

وصلت لعملي أخيرًا في تمام التاسعة، نسيت أن أخبركم بطبيعة عملي، أعمل محاسب بإحدى المتاجر الضخمة، أو بأسلوب أبسط وأكثر صراحة ( كاشير)، أُحصِل في اليوم نحو 3 ملايين جنيه، وأحصلُ على راتب شهري نحو ألفي جنيه، اتخيل نفسي يوميًا إنني جزء من فيلم "أكشن" وقمت بالاستيلاء على الأموال التي أحصلها وهربت لدولة أخرى وعشت هناك حياة مرفهة، وبعدها أتذكر إنني أجبن من تأخير دفع إيصال الكهرباء وليس سرقة متجر ضخم، ينتهي عملي في التاسعة مساءً، 12 ساعة من العمل الشاق وحان وقت فقرة التسلية قبل الوصول لشقة المشرحة.
 
شاهدته من بعيد فابتسمت كإنني شاهدت الفتاة التي أحبها، أصبح السائقين باختلافهم يعرفونني ولو تأخرت بضعة دقائق ينتظرون أمام باب المتجرحتى أخرج، استقليت الأتوبيس وبدأت رحلتي اللذيذة في مراقبة الركاب، ماذا لدينا اليوم؟ صعيدي يجلس بجوار شنطته، يبدو أنه جاء من بلدهم يبحث عن الرزق، وتلك الفتاة التي تتحدث في الهاتف وتكتم انفعالها ودموعها، غالبًا من موظفات شركة خدمة العملات المجاورة للمتجر وهي حاليًا تخوض شجارًا عاطفيًا، بعد خمسة دقائق استقل الرجل ضخم البنية الأتوبيس، أسرق النظرات له كعادتي، بدء في طقوسه اليومية، يغير القميص اللبني ويرتدي القميص الذي خلعه صباحًا، نفس السؤال يوميًا يدور في بالي.. لماذا لا يفعل ذلك في منزله وهو ذاهب للعمل أو في عمله وهو عائدًا لمنزله، ليقطع حبل أفكار بصوته الرخيم وهو يقول لي: "أنت بتتفرج على إيه؟".  

ارتبكت وبدأت أهيء نفسي لعلقة سخنة على يديها، أو على الأقل بعض العبارات المهينة والشتائم التي لن أردها أبدًا، أولاً لأنني مخطيء وكنت اتجسس عليه، وثانيًا: لأنني لو فكرت في رد الإهانة من الممكن أن نصل للاحتمال الأول وهو العلقة السخنة، وفجأة وبدون مقدمات تغيرت ملامحه ونبرة صوته ورأيته يبتسم ويقول لي: أنا بشوفك دايمًا.. وأنت مبحلق في الناس"، ابتسمت وأنا محرج دون أن أرد، ترك كرسيه وجاء ليجلس بجانبي وبدأ في تفسير ما يفعله دون حتى أن أطلب منه كأنه قرأ السؤال في عيني.

( أنت عارف.. أنا بسعد كل الناس ومش عارف أبقى سعيد).. قالها في بداية حديثه وهو يضحك ضحكة مليئة بالآلم، حمدي محمود، كان عاملات في إحدى الوزارات وبعدها اتخذ قرار المعاش المبكر ودفع مبلغ معاشه في خلو شقة إيجار قديم اعتبرها لقطة ورحمة من جشع أصجاب الإيجارات الجديدة وعدم الاستقرار، ثم بدأ رحلته كعامل على عربة مثلجات وآيس كريم في إحدى المولات، يقدم يوميًا للناس المشروبات والمثلجات اللذيذة التي تسعدهم، يشعر أنه حقق ما يريد في عمره بعد امتلاك شقة إيجار قديم لمدة 59 سنة ودخل شهر يكفي احتياجات منزله، لكنه غير سعيد، أو بمعنى أدق يائس وتعيس.

لدى حمدي ابن وحيد في سن الثانية عشر، كان يجلس مع أصدقائه الجدد في مرة أمام العقار، ليبادره أحد الأصدقاء بسؤال: هو أبوك بيشتغل إيه؟.. فيجيبه بن حمدي أن والده يعمل موظفًا حكوميًا في إحدى الوزارت، وكعادة الأطفال في التنمر وجدها صديقه فرصة ليقول له: "بس انت أبوك دايمًا بيرجع لابس قميص لبني كدة.. ولما سألت أبويا قال لي تلاقيه شغال في الأمن أو واقف على جراج"، شعر بن حمدي بالغضب الشديد من كلام صديقه وذهب لوالده يسأله عن سر هذا القميص.

أخبره والده بأنه ترك وظيفته الحكومية من أجل استقراره هو وأمه، وأنه لا يعمل كفرد أمن لكنه بائع مثلجات وأشياء لذيذة، وفي محاولة منه لاسترضائه قال: "تعال ليّ يوم الشغل أنت وأصحابك وأنا هأكلكم أحلى آيس كريم في الدنيا"، لم يقتنع تمام ابنه وشعر بالإهانة  من عمل والده، بل طلب منه ترك الشقة والعودة لعمله القديم حتى لا يراه أصدقائه بهذا القميص اللبني.

وبعد تفكير طويل ذهب لابنه وقال له إنه اقتنع بكلامه وسيعود مرة أخرى للعمل الحكومي دون حتى أن يتركوا الشقة، إذن فهو توصل لحل، استغل يوم إجازته وذهب لشراء شنطة جديدة، أصبح يستيقظ قبل ميعاده بنصف ساعة يحضر الملابس التي سيرتديها، ويخفي في شنطته القميص اللبني.

وفور استقلاله الأتوبيس والتأكد من عدم وجود أي من الجيران، يبدأ في تبديل ملابسه بقميصه اللبني الخاص بعمله حتى يصل جاهزًا ولا يأخذ وقتًا ويتأخر في تغيير ملابسه داخل حمام المول ويتم خصم ذلك الوقت من راتبه، وبعد أن انتهى من حكايته وجدت أمامي رجل ضخم البنية لكنه يحمل قلب رحيم لم يستطع أن يطول قلب ابنه أي وجع أو آلام وتحمل هو مكانه مشقة التغيير في أتوبيس نقل عام وفضول الركاب.

كنت أنظر له وابتسم كإنني فخورًا به، كإنني ابنه الذي فعل من أجله كل هذا، بعدها توقف الأتوبيس وقال لي: "دي محطتي .. أشوفك بكرة وأنا بغير بقى".. وضحكنا سويًا ثم غادر.