الجمعة 03 مايو 2024 الموافق 24 شوال 1445
رئيس التحرير
حازم عادل
عربى ودولى

مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية: الدول الغربية باتت عارية من القيم بعد حرب غزة

الجمعة 10/نوفمبر/2023 - 04:18 م
صورة ارشيفية غزة
صورة ارشيفية غزة

 اندلعت الحرب الدامية بين الإسرائيليين والفلسطينيين  في قطاع غزة، لكي تنسف مصداقية ومشروعية  السياسة الخارجية الليبرالية التي تتبناها الدول الغربية.

 

فبعد عقود من حديث النظم الغربية عن "السياسة الخارجية القائمة على القيم" و"التدخل الإنساني (في شؤون الدول الأخرى)" و"المسؤولية عن الحماية" و"النظام القائم على القوانين" وغير ذلك من الشعارات المثيرة للجدل، يشعر أنصار هذه الشعارات في الغرب بالمسؤولية الأخلاقية تجاه نفاق السياسات الخارجية لحكوماتهم. فهذه الحكومات تدعم ما يوصف بالأنظمة المستبدة الموالية لها في منطقة لكنها تعادي مثل هذه الأنظمة في مناطق أخرى، والحكومات الغربية تتحدث عن ضرورة احترام الحدود الدولية، هنا وتتجاهله هناك، وتدافع عن المدنيين هنا وتتجاهل قتلهم هناك، وهكذا.

 

وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية يقول مالدين مردالج أستاذ العلوم السياسية في جامعة وينشو كيان الصينية إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل عام والجولة الحالية بين إسرائيل وحركة حماس  بشكل خاص يمثل تحديا هائلا لمشروعية مفهوم التدخل الليبرالي: فعلى الغرب حماية قيم مثل حق إسرائيل في الوجود ،ولكن عليه أيضا حماية قيم حقوق الإنسان الفلسطيني والقانون الدولي الذي يحتم إقامة دولة فلسطينية.

 

والحقيقة أن القيام بكل هذه الالتزامات أمر مشكوك فيه تماما، ويثور الشك أكثر، في كل مرة يتحدث فيها المسؤولون الغربيون على "حل الدولتين" للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. والمؤسف أن صدى هذه الكلمات يتردد مثل "تعويذة" دبلوماسية لتجنب القيام بإجراءات حقيقية للوفاء بما تفرضه قيم السياسة الخارجية الليبرالية. فما يحدث على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة، يعني تفريغ عبارة "حل الدولتين" من مضمونه تماما كما تفرغت من مضمونها عبارة "حق العودة" الخاصة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم  التي غادروها عام 1948 وأصبحت الآن جزءا من إسرائيل.

 

ويقول مردالج الحاصل على الدكتوراه من جامعة نورث إيسترن الأمريكية  إن تكرار عبارة "حل الدولتين" هو تظاهر من جانب الدول الغربية بالسعي نحو تسوية سلمية للصراع، في حين أنها تترك "القوي يفعل ما يريده وترك الضعيف يعاني"على حد قول المؤرخ الإغريقي ثوقيديدس صاحب كتاب تاريخ الحرب البيلوبونيسية منذ 2500 عام. ولا يملك المرء إلا أن يتساءل  عما إذا كان استحضار المسؤولين الغربيين الآن لعبارة "حل الدولتين" محاولة لإخفاء عجز مبدأ التدخل الليبرالي الأساسي المتمثل في المطالبة باستخدام القوة لمنع ارتكاب الفظائع الجماعية في حرب غزة.

 

ويقول ألكسي جيه. بيلامي أحد أقوى مؤيدي مبدأ "مسؤولية الحماية" في مقال عن حرب غزة 2014 التي اطلقت عليها إسرائيل اسم "الجرف الصامد" وأطلقت عليها حركة حماس اسم "العصف المأكول"، إن الأمر سيبدو من وجهة نظر البعض مثيرا للجدل، للدرجة التي أشير فيها إلى سلطة مجلس الأمن الدولي في استخدام القوة لاستعادة اسلام والأمن، في غزة". ومع إدراك أن تعارض المصالح بين الأعضاء في مجلس الأمن، سيمنع  أي تحرك لوقف الفظائع التي ترتكب، عاد بيلامي للمطالبة بتسوية سلمية لهذا الصراع وفقا للخطوط التي حددتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وتم إقرارها في اتفاقيات أوسلو منذ سنوات كثيرة، ولكن هذا يذكرنا بمدى الحاجة لحشد الموارد المتاحة   لتحقيق هدف حماية السكان من الجرائم الفظيعة.

 

ويضيف مردالج أن النفاق الليبرالي السائد بشأن القدرة على احترام حقوق الإنسان لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين يميل ناحية إسرائيل. وقبل ذلك والأكثر أهمية هو أن المصالح المتعارضة تتجه ناحية مصلحة إسرائيل وإن كان بصعوبة، مثل استقطاب العرب بعيدا عن روسيا والصين وتقليل الغضب العالمي المؤيد للفلسطينيين واحترام الترسانة النووية الإسرائيلية وأخيرا تقليص النفوذ الإيراني.

 

وهنا ترى إدارة الرئيس الأمريكي جو بادين نفسها موزعة بين خيارين كلاهما صعب الأول منح إسرائيل الدعم الاستراتيجي والمعنوي لسحق غزة، والثاني الحد من الاجتياح الإسرائيلي للقطاع قبل أن تنفجر الأنظمة العربية المؤيدة لواشنطن تحت ضغط شعوبها وتندفع إلى مواجهة مع إسرائيل. في الوقت نفسه تحقق إيران مكاسب على المدى القصير بطريقة أو بأخرى. وفشلت محاولات بايدن للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للقبول بتوقفات إنسانية للقتال. ومع ذلك من غير الواضح ما إذا كان الهدف الأساسي للتحركات الأمريكية بشأن هدنة إنسانية هو  رئيس وزراء إسرائيل بالفعل، أم السيطرة على تدهور صورة بادين لدى دوائر الناخبين الأمريكيين المؤيدين للفلسطينيين، واليسار الليبرالي الأوروبي والكثير من شعوب الجنوب العالمي التي تعارض الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

 

 

في الوقت نفسه فإن "حل الدولتين" يصطدم بحقيقة أن التنازل الأساسي من إسرائيل يتمثل في الانسحاب الفعلي من أراض تحتلها ومواقع تمثل أهمية استراتيجية لها، في حين أن التنازل الفلسطيني يتمثل في التزام لفظي بالسلام. فما الذي يجعل لهذا الالتزام مصداقية؟ فالفلسطينيون يمكن أن يغيروا رأيهم بعد ذلك ويهاجموا إسرائيل عندما يقتنعون بقدرتهم على ذلك. ولا يمكن أن يكون الردع النووي الإسرائيلي بديلا لوجود عمق جغرافي استراتيجي لإسرائيل التي تعتمد بالفعل على ذلك، لآن المسافة القريبة للغاية للجانب الفلسطيني تجعل  استخدام إسرائيل للرادع النووي ضده عملية انتحارية بالنسبة لها، بحسب مردالج.

 

لذلك  عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة انطلاقا من هذه الرؤية على الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي العربية لتحقيق هذا العمق الاستراتيجي في حروب 1948 و1956 و1967 و1982، ثم استسملت لمصر وانسحبت من أراضيها المحتلة بموجب اتفاق السلام مع القاهرة في 1979 بهدف كسر الوحدة العربية، وتخلت عن أجزاء من الأراضي الفلسطينية في اتفاقات أوسلو للسيطرة على الخسائر التي تكبدتها نتيجة سوء التعامل مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وانسحبت من غزة من جانب واحد في 2005 لكي تكسر وحدة الفلسطينيين في القطاع والضفة الغربية.

 

وطوال هذه الحلقات وفي ظل كل الحكومات احتفظت إسرائيل بالأراضي المحتلة وتوسعت في الاستيطان في الضفة الغربية بهدف تحدي السيطرة الديموجرافية للفلسطينيين في هذه الأراضي. ونظرا لاستمرار مشكلة "الالتزام الموثوق به" في أي عملية سلام، تعتبر إسرائيل أن تجريد أي دولة فلسطينية منتظرة من السلاح ليس كافيا، وتصر على استمرار وجودها العسكري في تلك الدولة بهدف الرقابة والسيطرة. ويتضمن هذا وجود بعض الممرات والمناطق الاستراتيجية في إسرائيل والمستوطنات الكبرى. معنى هذا أن أمن إسرائيل ووجود دولة فلسطينية ذات سيادة لا يتوفقان.

 

 ورغم اعتراضات إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما المستمرة، واصلت إسرائيل التوسع الاستيطاني. في الوقت نفسه أدى تزايد الخلافات بين إيران ودول الخليج العربية إلى تقارب تلك الدول مع إسرائيل، وهو ما تجسد فيما عرف باسم اتفاقيات السلام الإبراهيمي، لكن تم تهميش الحقوق الفلسطينية مع هذه التطورات. وبات واضحا وإن كان التصريح به إساءة أدب، أنه تم ترك الفلسطينيين فريسة للأوضاع المعيشية البائسة في قطاع غزة ولعدوان المستوطنين اليهود في الضفة الغربية.

 

ويعتبر قرار حركة حماس شن هجومها على المستوطنات والبلدات الإسرائيلية  في غلاف قطاع غزة  يوم 7 /أكتوبر الماضي أخلاقيا من وجهة نظر مؤيديها وبخاصة الذين يعيشون في مأمن من الرد العسكري الإسرائيلي على الهجمات. كما أن استمرار الكفاح المسلح ضد قوة الاحتلال الاستعماري المتفوقة أمر يثير الإعجاب. ومع ذلك فإن عقلانية قرار حماس تظل موضع تساؤل. فاستفزاز إسرائيل يدفعها إلى طحن الشعب الفلسطيني حتى تتغير موازين القوة لصالح الفلسطينيين أو يفنى المجتمع الفلسطيني. ولآن حماس رأت  أن التطورات الجيوساسية الإقليمية والدولية جعلت فناء المجتمع الفلسطيني وتصفية قضيته مسألة وقت، فقد اتخذت قرارها بالهجوم وهدم المعبد على الجميع.

 

والآن ومع استخدام إسرائيل لقوتها العسكرية الكاملة ضد غزة رغم اعتراضات الكثيرين من الليبراليين في الغرب، فإن المأساة الأخلاقية حاضرة، لكنها مخيفة للدرجة التي يصعب معها الاعتراف بها، وهي أن طرفي الصراع متمسكان بلعبة انعدام الثقة الصفرية، وكأن كل طرف يتوقع فناء الآخر ليقبل بسلام ذي مصداقية. الأسوأ من ذلك هو أنه لا توجد قوة خارجية راغبة أو قادرة على فرض بديل مستدام لهذا الصراع المميت.

 

وتعتبر المعاناة الإنسانية الناجمة عن لعبة انعدام الثقة الصفرية  مأساة في حد ذتها. ورغم ذلك فإن المأساة الأعمق  بالنسبة للكثيرين من الليبراليين الغربيين، وبخاصة المؤمنين بحق التدخل الإنساني، هي رؤية تغطية عالمية حية لانهيار مبدأهم: فعليهم إما المراقبة بصمت أو الموافقة على منح تدمير إسرائيل لحركة حماس الأولوية على حماية المدنيين الفلسطينيين. وكلا الخياران خيانة للنزعة الليبرالية. أما الإنكار  لما يحدث فلن يؤدي سوى إلى تفاقم المعاناة الأخلاقية واتهامهم بالنفاق وإثارة الاستياء في العالم الجنوبي.